إن هذه المدة على الإنسان فيها حقوق كبيرة لأمته، ومن هنا فإنما يستغلها بداية بمعرفته لمهمته ثم بمعرفته ثانيا لحقوق أمته ثم بعلو همته ثالثا عن السفساف حتى لا يكون كالحيوان البهيمي، إن الإنسان إذا شعر بأن عليه حقوقا عظيمة لله وأن عليه حقوقا قد رتبها الله عليه لأمته وأن الطاقة التي معه ليست ملكا له، وأن عليه أن يسعى لإعلاء كلمة الله في هذه الأرض وأن يبذل الجهد في ذلك، وهو يعلم أن جهده سيزايله ويفارقه، فلا بد أن تعلو همته وأن يستغل الوقت ويبادر ولهذا قال علال بن عبد الله الفاسي رحمه الله:
أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب**وألهو بلذات الحياة وأطرب
ولي نظر عال ونفس أبية** مقاما على هام المجرة تطلب
وعندي آمال أريد بلوغها** تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب
ولي أمة منكودة الحظ لم تجد**سبيلا إلى العيش الذي تتطلب
على أمرها أنفقت دهري تحسرا**فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب
ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة**فإني على جمر الغضا أتقلب
إن هذه المهمة النبيلة التي عهد بها إلى الشباب تقتضي منهم أن يكونوا أمثلة يحتذى بها فإن الله سبحانه وتعالى وصف أصحاب الكهف بأنهم {فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى}، ووصف الذين اتبعوا موسى عليه السلام في وقت المذلة والاستضعاف والخنوع لفرعون وجنوده بقوله: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم}، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث آمن به الشباب الذين ليس لهم مكان في خريطة المجتمع، ولا يرغبون في بقاء ما كان على ما كان بل يحبون التغيير والتطور، ولذلك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فمن النادر أن يكون أحد من السابقين الأولين أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإذا نظرتم في تراجم أصحابه فخلفاؤه الأربعة الراشدون وبقية العشرة المبشرين كلهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمر، ومن النادر أن يوجد من السابقين الأولين من هو أسن منه كعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي هو سيد شهداء بدر وعندما طنت ساقه يوم بدر جيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لوددت أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:
كذبتم وبيت الله نُبْزَى محمدا**ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله**ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم إن أولئك الرهط كذلك الذين غيروا مجريات الأمور في المدينة كانوا من الشباب فلم يظهر النفاق في الشباب في المدينة، فعلية الأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه وشهد الله لهم بالإيمان في القرآن فقال: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} كانوا من الشباب، وكانوا يسعون إلى تغيير عقليات آبائهم وأمهاتهم وأعمامهم وأخوالهم وكبار السن منهم، حتى إنهم يشهدون عليهم، فهذا زيد بن أرقم وهو شاب في الثالثة عشرة من عمره، يردفه زوج أمه وهو عمه وهو أمن الناس عليه رباه صغيرا يتيما وأحسن صحبته، لكنه سمع منه كلاما من كلام أهل النفاق، فقال: يا أبت لا أحد من الناس أمن علي منك، ولكني سمعت منك كلاما والله لأرفعنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال عمه الذي رباه وأحسن كفالته، أداء منه للحق الذي عليه ونصيحة لله ورسوله، فجاء عمه يكذبه فنزل جبريل بتصديق زيد من فوق سبع سماوات، فعرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أذنه وقال: أذن واعية، ثم إن الذين قادوا جيوش هذه الأمة وفتحوا الأمصار وضحوا التضحيات الجسام كانوا في أغلب الأحيان من أولئك الشباب الذين نذروا أعمارهم لله سبحانه وتعالى وحملوا لواء هذا الدين فجابوا به مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا خير فاتحين في كل الأمصار، فأولئك الذين قادوا الجيوش إلى الشام والعراق في أيام أبي بكر وعمر جمهورهم من شباب هذه الدعوة ومن الذين باشرت بشاشة الإيمان قلوبهم فصدقوا الوعد وآمنوا به فحقق الله لهم ذلك الوعد الكريم ونصرهم وأعلى كعبهم ومنزلتهم، والذين قادوا الجيوش بعدهم من أبنائهم كانوا كذلك في هذه السن، فقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر لواء عقده لأسامة بن زيد رضي الله عنه وكان شابا في السابعة عشرة من عمره.
وعندما تكلم الناس في إمرته قال: لئن تكلموا في إمرته لقد تكلموا في إمرة أبيه قبله، وأشهدهم على حبه له، وأول عمل ابتدأ به أبو بكر خلافته هو إنجاز بعث أسامة فسيره إلى البلقاء ومؤتة، وكذلك اشتهر من الفاتحين في أيام بني أمية محمد بن القاسم الثقفي الذي قاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، وفتح السند والهند ووصلت فتوحه إلى مشارق الأرض ولم يتجاوز السابعة من عمره، ولذلك قال فيه أحد الشعراء:
قاد الجيوش لبضع عشرة حجة**يا قرب ذلك سؤددا من مولد
وكذلك منهم قتيبة بن مسلم الذي فتح الحصون ووصلت فتوحه إلى الصين وإلى الجمهوريات المشهورة الآن في الروس قاد هذه الجيوش وفتح الفتوح وعمره دون الثلاثين، وكذلك الذين حملوا هذا العلم ونشروه ودونوا الكتب وحفظوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جمهورهم من الشباب، فهذا معاذ بن جبل الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأتي يوم القيامة أمام العلماء برتوة أي غلوة فرس قد مات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن والحاكم في المستدرك أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وكذلك عبد الله بن العباس بن عبد المطلب فإنه عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الثالثة عشرة من عمره، قال: فذهبت إلى لِدَةٍ لي من الأنصار فقلت: إن الله قد قبض رسوله صلى الله عليه وسلم وإن العلم في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلنا نسد لأمته مسدا، فقال: ومتى يحتاج إلينا دعنا نلعب فذهبت وتركته، فما مضت ثلاث سنوات حتى أصبح بن عباس يسميه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتى الكهول، ويجلسه بين شيوخ أهل بدر ويقدمه في المسائل العلمية، ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:
بلغت لعشر مضت من سنيـ**ـك ما يبلغ السيد الأشيب
فهمك فيها جسام الأمور**وهم لداتك أن يلعبوا
ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه**رأيت له في كل محمدة فضلا
إذا قال لم يترك مقالا لقائل**بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفا ما بالنفوس فلم يدع**لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
وكذلك بعد هؤلاء عدد من الذين تبؤوا المكانة السامية السامقة في العلوم الشرعية كانوا في سن الشباب، فهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله يقول: ألبستني أمي ثيابا جدادا وعممتني بعمامة بيضاء، وجعلت في كمي صرة من ذهب وقالت: اذهب إلى المسجد ولا ترجع إلي حتى تكون شيخ الحلقة، وأمه هي العالية مولاة طلحة بن عبيد الله مولاة لبني تيم بن مرة، قال: فذهبت فكنت أتنقل بين الحلقات فأجلس إلى ربيعة وإلى عطاء بن يسار وإلى نافع مولى بن عمر فقدم علينا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري من الشام فاجتمع عليه أهل تلك الحلقات في المسجد، فسألوه أن يحدثهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجلس فحدثنا ستين حديثا بإسناده، فقالوا: زدنا فكأنه ضجر، فقال: حتى تحفظوا ما حدثتكم، فقال له ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو ربيعة بن فروخ المشهور بربيعة الرأي إن في الحلقة من قد حفظ ما قلت منذ اليوم، فقال: من هو؟ قال بن أبي عامر وأشار إلي ومالك بن أنس بن أبي عامر، فسألني محمد بن شهاب فحدثته بتلك الأحاديث الستين على ترتيبها، فلم أزل أحظى بالحظوة عنده من ذلك اليوم، وكان محمد بن مسلم بن شهاب يقضي ديون طلبة العلم وأهله، فينتظره طلاب العلم في المدينة فإذا قدم من الشام سألهم عن ديونهم فقضاها جميعا، وكان مالك يحظى بالمكانة السابقة عند محمد بن مسلم بن شهاب، ولذلك حين ألف الموطأ افتتحه بحديث محمد بن مسلم بن شهاب، وكان يجعله في مقدمة الأبواب ويقول: حديث ابن شهاب كالنبراس يضيء على ما بعده، وعندما حدث مالك ورغب الناس في حديثه واجتمعوا إليه وتركوا بعض من هو أسن منه سئل في ذلك فقال: ما جلست هذا المجلس حتى شهد لي سبعون محنكا أني أهل لذلك، سبعون محنكا وقد كان أهل العلم إذ ذاك يتميزون بوضع العمامة تحت الحنكين، فقال: ما جلست هذا المجلس حتى شهد لي سبعون محنكا أني أهل لذلك.وكذلك محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله فإنه ولد بغزة بالأرض المباركة بأرض فلسطين، وذهبت به أمه وهو صغير إلى اليمن ثم رجعت به إلى مكة، فكان يذهب إلى الحرم فيكتب الدروس حتى امتلأ عليه بيته مما كتب، فأغلق عليه بابه وعزم أن لا يخرج حتى يحفظ ما كتب فحفظه جميعا، ثم أرسلته أمه وهو طفل دون العاشرة إلى بني هذيل فجلس فيهم يحفظ شعرهم أشهرا فحفظ عشرين ألف بيت من أشعار بني هذيل، ثم رجع إلى مكة فحفظ الموطأ قبل بلوغه، وقدم على مالك بالمدينة ومعه رسالة من أمير مكة تشفع له، فلما أتاه عرض عليه الرسالة فاستهجنها وقال: متى كان هذا الأمر بالشفاعة، قال: فجلست في مجلسه وهو يحدث بالموطإ فلما انفضت الحلقة نظر إلي فقال: يا بني إني أرى أن الله قد قذف في قلبك شيئا من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية، فأخبرته أنني قد حفظت الموطأ فسمعه مني في أربعين مجلسا، الشافعي يقرؤه ومالك يستمع في أربعين مجلسا، ثم انتقل بعد ذلك إلى العراق فحاول أن يجمع علوم أهله كذلك، ثم ذهب إلى مصر ومات بها بعد أن نشر علمه عن أربع وخمسين سنة، فقد ولد الشافعي سنة خمسين ومائة ومات سنة مائتين وأربع من الهجرة، والسنة التي ولد فيها الشافعي هي التي مات فيها أبو حنيفة رحمه الله.