الجهة الأولى: الخمار بين المصطلح الشرعي واللغوي.
من المعلوم أن ثمة فرقا بين المصطلح الشرعي واللغوي للكلمة الواحدة، وأضرب مثلا:
الإيمان في كلام أهل اللغة هو التصديق. لكنه في اصطلاح الشارع أعم من ذلك، حيث يشمل: التصديق بالقلب، والقول باللسان، والعمل بالجوارح. فإن ورد لفظ الإيمان في نص شرعي، كان هذا معناه، وخطأ المرجئة أنهم قصروا المعنى على الاصطلاح اللغوي، ولم ينظروا في الاصطلاح الشرعي.
ثم إن الإيمان نفسه قد يرد في نص شرعي، ويراد به المعنى اللغوي، أو قريبا منه، وذلك إذا اقترن بالإسلام، فيكون دالا على الباطن، والإسلام على الظاهر.
وبالنظر والتأمل نجد أن للخمار الحكم نفسه، ففي اللغة هو خمار الرأس. لكن جاء الاصطلاح الشرعي فزاد فيه الوجه، والدليل مركب من مقدمات ثلاثة ونتيجة:
- أن غطاء الوجه مشروع، لا يجادل في هذا عالم، إما وجوبا أو استحبابا.
- أن المؤمنات أمرن بالتخمير: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}.
- يصح في الخمار أن يكون غطاء الوجه والرأس معا، وهذا أمر أقر به الشيخ رحمه، حيث قال عنه: "لا يلزم من تغطية الوجه به أحيانا، أن ذلك من لوازمه عادة، كلا". [جلباب المرأة المسلمة ص73]
- والنتيجة: أن الخمار الشرعي: هو غطاء الوجه والرأس، سواء كان وجوبا أو استحبابا.
لكن قد يأتي الخمار في مصطلح شرعي، ويراد به الرأس فحسب، إذا وجدت القرينة، كما في حديث صلاة المرأة بخمار، وغيره من النصوص التي استدل بها الشيخ الألباني، فالقرينة حاكمة، فإنه من المقطوع به أن المرأة إذا صلت أمرت بتغطية رأسها، دون وجهها وكفيها، فهذا قرينة تدل على أن المقصود بالخمار في الأثر هو غطاء الرأس، لكن إذا خلت من القرينة، فالمصطلح الشرعي للخمار هو غطاء الوجه والرأس.
إذن الأمر عكس ما ذهب إليه الشيخ الألباني: فالخمار إذا أطلق في النصوص الشرعية: دل على غطاء الرأس والوجه معا، سواء على جهة الوجوب، أو الاستحباب [على قول من يقول به]، ليس غطاء الرأس فحسب.
الجهة الثانية: حقيقة قول من فسر الخمار بغطاء الرأس.
يلاحظ في كلام العلماء في تفسير الخمار أنهم قالوا: غطاء الرأس. ولم يذكروا الوجه، ولم ينفوه.
أفلا ينم هذا عن عدم ممانعتهم: أن يكون الخمار شاملا الاثنين، وإن اكتفوا بذكر الرأس؟.
قد يقال وما الداعي لهذا الاحتمال؟.
الجواب: أن الوجه من الرأس، ودخوله في المعنى وارد، وإذا أضيف إلى ذلك أمر الشارع بغطاء الوجه، سواء على جهة الوجوب، أو الاستحباب [لمن قال به]، فهذان وجهان يؤيدان دخول الوجه في المعنى، ويكون العلماء ذكروا الرأس، واستغنوا عن الوجه، لأنه يدخل ضمنا فيه، ونضرب ابن حجر مثلا:
تقدم رأيه رحمه الله في الخمار أنه: غطاء الوجه والرأس. بنصوص صريحة، ومع ذلك وجدناه يقول:
"والخمر، بضم الخاء والميم، جمع خمار، بكسر أوله والتخفيف: ما تغطي به المرأة رأسها" [الفتح 10/296، اللباس، باب: الحرير للنساء]
فنحن إزاء هذا بين أمور:
- فأما أن نحكم عليه بالتناقض، ونعرض عن قوله كليا.
- وإما أن نرجح أنه أراد غطاء الرأس، ونبطل قوله الآخر، كما فعل الشيخ رحمه الله تعالى.
- وإما أن نرجح أنه أراد غطاء الوجه والرأس، ونحمل قوله الآخر على الأول.
فأما التناقض فلا وجه له، وذلك لأن التناقض يكون عند تعذر الجمع، وهنا غير متعذر، فالوجه من الرأس، فالاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر وارد، ولو أنه قال في الأول الرأس، وفي الآخر القدم، لصح التناقض.
وأما ترجيح غطاء الرأس دون الوجه فلا وجه له أيضا: وذلك لأننا أمام نصوص عديدة له، كلها يفسر فيها الخمار بغطاء الوجه والرأس، فلا يمكن تجاهل هذه النصوص، وترجيح أن الخمار غطاء الرأس فحسب.
إذن ليس أمامنا إلا ترجيح أنه أراد بالخمار غطاء الوجه والرأس جميعا، ونحمل قوله الآخر على هذا الأول، ولا نعارضه به، لأمور:
(1) لأنه صريح كلامه، في أكثر من موضع.
(2) لأن الوجه من الرأس، فيصح أن يكون مع تغطية الرأس تغطية الوجه، ولا يمتنع ذلك شرعا ولا عقلا، كما يقر الشيخ نفسه بهذا، لما ذكر أن الخمار قد يكون يغطى به الوجه.
(3) لأنه لو أخذنا بقوله أن الخمار غطاء الوجه والرأس، لم نبطل قوله الآخر، لكن لو أخذنا بظاهر قوله أنه غطاء الرأس، ورجحنا أنه أراد الرأس فحسب. نكون أبطلنا قوله الأول. وإذا أمكن إعمال القولين، من غير مانع عقلي أو شرعي، فهو أولى من إبطال أحدهما، ولا مانع عقلي أو شرعي.
ومما يدل على أن العلماء لا يمانعون من دخول الوجه في معنى الخمار، ولو اقتصروا على ذكر الرأس: أنهم عرفوا النصيف، فقالوا: "والنصيف: الخمار" [لسان العرب14/166]، ومعروف أن النصيف غطاء الوجه، يدل على هذا:
- ما جاء في لسان العرب [14/166]: "قال أبو سعيد: النصيف ثوب تجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمي نصيفا، لأنه نصف بين الناس وبينها، فحجز أبصارهم عنها". والأبصار لن تحجز إلا بغطاء كامل يدخل فيه الوجه.
- وما جاء في قصة المتجردة زوجة النعمان، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني 11/11) "أن النابغة الذبياني كان كبيرا عند النعمان، خاصا به، وكان من ندمائه وأهل أنسه؛ فرأى زوجته المتجردة يوما، وغشيها بالفجاءة، فسقط نصيفها، واستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها أن تستر وجهها لعبالتها وغلظها".. قال [11/14]: "وقال في قصيدته هذه، يذكر ما نظر إليه من المتجردة، وسترها وجهها بذراعها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد".
إذن ذكر العلماء غطاء الرأس معنى للخمار، لا ينفي دخول الوجه تبعا، كما أن ذكرهم التصديق معنى للإيمان، لا يلزم منه نفيهم دخول العمل فيه.!، إذ قد يقصدون المعنى اللغوي فحسب، وقد يقصدون التصديق الشامل للقلب، واللسان، والجوارح (4)، فمن أراد نسبة أحد إلى الإرجاء، فعليه أن يأتي بكلام صريح عنه، يخرج العمل من الإيمان، أو يفسر الإيمان شرعا بأنه: التصديق، أو المعرفة، أو يضيف النطق باللسان. وكذلك في معنى الخمار، لا بد من كلام صريح، فيه نفي دخول الوجه، وإلا فلا.
هذا مع أنه قد جاء في أشعار العرب ما يدل على اندراج الوجه في الخمار، حيث قال القاضي التنوخي: قل للمليحة في الخمار المذهب *** أفسدت نسك أخي التقي المذهب
نور الخمار ونور خدك تحته *** عجبا لوجهك كيف لم يتلهب
وقد نقله الشيخ الألباني، وعقب عليه بقول:
"لا يلزم من تغطية الوجه به أحيانا، أن ذلك من لوازمه عادة، كلا". [جلباب المرأة المسلمة ص73]
إذن موضع الخلاف مع الشيخ أعلى الله درجته: أنه يرى أن الخمار إذا أطلق دل على غطاء الرأس فحسب.
وبينما الرأي الآخر يقول: بل إذا أطلق الخمار دل على الرأس أصالة، لأن الخمار يوضع عليه أولاً، وعلى الوجه تبعا، لأن الوجه من الرأس.. وفي الاصطلاح الشرعي: الوجه يدخل أصالة.
- لأن التغطية مشروعة، سواء على جهة الوجوب أو الاستحباب، لمن قال به.
- ولأن الخمار يصح إطلاقه على غطاء الوجه والرأس معا.
* * *
ومما يجدر لفت النظر إليه: أن الشيخ ذكر:
-عن جمع من المفسرين، كابن جرير، والبغوي، والزمخشري، وابن العربي، وابن تيمية، وابن حيان.
- وعن جمع من الفقهاء، كأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والشافعي، والعيني.
أنهم يقولون: الخمار هو غطاء الرأس.
وهنا ملاحظة: فبالإضافة إلى ما تقدم من تفصيل في معنى الخمار، ودلالته على الرأس والوجه جميعا، يقال:
- ومن هؤلاء العلماء من مذهبه تغطية الوجه، كابن العربي وابن تيمية.
- ومنهم من صرح بوجوبها في بعض الآيات، دون بعضها، كابن جرير والبغوي في آية الحجاب. والزمخشري وابن حيان في آية الجلباب.
- من هؤلاء من نص صراحة على أن الخمار: غطاء الرأس والوجه. كما تقدم عن ابن تيمية، والعيني.
هذا ولم أتتبع قول كل من ذكر ذلك من العلماء، بل كان هذا مما مر بي من أقوالهم عرضا.
* * *
وفي كل حال لنا أن نسأل سؤالاً نراه مهما:
- إذا كان الخمار ليس غطاء الوجه.
- وإذا كان القناع ليس غطاء الوجه.
- وإذا كان الاعتجار ليس غطاء الوجه.
- وإذا كان الجلباب ليس غطاء الوجه.
فهذا الذي تغطي المرأة به وجهها: ماذا يكون، وبماذا يسمى؟.
* * *
وبعد: فالنتيجة المهمة التي نخرج بها من هذا المبحث هي:
- أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين، لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.
وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب حجاب الوجه، بما سبق من الوجوه والأدلة.
فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة،، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطيلها لأجل متشابه.
هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من الثبوت والدلالة، فكيف إذا كان باطل السند، كحديث أسماء؟، أو محتمل الدلالة غير قطعي في الكشف، كحديث الخثعمية؟.
وهذا حال الآثار التي استدل بها الذين أجازوا الكشف، فحينئذ فلا ريب أن الواجب طرحه، وعدم الالتفات إليه، ولا يجوز بحال تقديمه على نص محكم
* * *
--------------------------------
(1) ظاهر سياق الآية ورد في حالة العجز عن إخفاء الزينة، ولا يمنع أن يتضمن المعنى حالة العفو، فكلها يجمع بينها عدم القصد لإظهار الزينة.
(2) سند هذه الرواية صحيح، كما تقدم من كلام الإمام أحمد، وابن حجر، في مبحث آية الجلباب.
(3) هذا القول مشهور عن عبيدة السلماني، وليس أبا عبيد، فيبدو ثمة تصحيف هنا.
(4) قراءة متفحصة لأقوال العلماء في لسان العرب [مادة: أمن] تعرف القارئ وتوقفه على هذه الحقيقة.